الحرف مناسبة للرسم

خالد خضير الصالحي

مقالة نشرة في جريدة الصباح يوم 25.10.2011

 


اتاحت قاعة (هالة غاليري - في ميونخ) الفرصة للمتلقي الأوربي أن يرى الجانب الآخر من الحرف العربي بعد أن كان قد تشبع بالرؤية التقليدية لذلك الحرف التي تمثلت بأمرين هما: أولا، (مقروئية) النص في اللوحة التقليدية للخط العربي أو في المخطوطات والمدونات العربية القديمة، والثانية، صرامة وقداسة مقاييس الحروف لكل نمط من أنماط الخط العربي.
حيث يتخذ الخطاطون التقليديون الذين مازالوا يتخذون قصبة الخط التقليدية أداة، والنقطة التي تصنعها مقياسا صارما (للرسم) ينفقون عمرهم كله في سبيل إتقانه وتوارثه بين أجيال الخطاطين العرب أو الذين يستخدمون الحرف العربي في الكتابة..

1- كنت قد كتبت عن التجربة الحروفية عند الرسامة إيمان عبد الله محمود وتضمن المقال توصيفات لتجربتها إلا أنني وبعد مشاهدة أعمال هذا المعرض المشترك لها وجدت أن تلك التوصيفات كانت نوعا ما (قياسية) بدرجة من الدرجات، وربما هي صالحة للتعميم على الاثنين الآخرين، فرغم أن المشتركين في هذا المعرض: إيمان عبد الله محمود، حـسـن المسعودي وكوروش غازي مراد، يشتغلون على الحرفِ كإستراتيجية ثابتة، إلا أن ما يميزهم أنهم في أعمالهم هنا لا ينتمون لا إلى فئة الخطاطين بشكل حاسم ولا إلى فئة الرسامين إلا بدرجات متفاوتة، وإنهم جميعا إنما يتخذون الحرف مناسبة للرســــــــــم، وليس مرتكزا لإنجاز لوحة خط تقليدية، وسواء انشغل قسم منهم في تنويع تقنياتهم كرسامين أو كخطاطين، أو حاول بعضهم التوغل في الحرف باعتباره رؤية، إلا أنهم يشددون مجتمعين في أعمالهم أن لا يكون لذلك الحرف رسالة مواصلاتية سواء بشكل مباشر، أو بشكل مبطّن، فالمهم عندهم أن تمتلك اللوحة اشتراطاتها حينما تتحول الحروف في النهاية إلى سطح ببعدين (=عمل فنيّ) في جوهرها النهائي، باعتبار اللوحة في النهاية مادة على سطح، فلا قيمة للمصادر (الأولى) التي انحدرت اللوحة منها حتى وان ظلت تحمل ذكريات أو إشارات مرجعياتها الشكلية التي  اجتزأت منها (شريحةُ) اللوحة، ذلك الكل الذي لم يكن إلا مدونات متنوعة من: الأوفاق، والجداول السحرية، والرقى التي تنطوي على: أرقام وحروف غامضة، وآثار للتهندس الرياضي الذي ينشغل به (كتّاب): الرقى، والأوفاق، والجداول السحرية من: معادلات، وقيم رياضية تتنافذ بين: الأعداد والحروف.. ووجدت هؤلاء (الرسامخطاطين) كذلك يتحركون في ذات المستوى الأفقي داخل (المدونة)، الذي نوهت عنه سابقا: صعودا باقتباس صفحات المخطوطات أو أغلفتها، ونزولا إلى اجتزاء
شرائح (مقاطع عرضية =أجزاء) منها، وبذلك يتواشج المحتوى والشكل بطريقة لا يمكن معه فصلهما حتى ولو لأغراض (امبريقية) دراسية.

2- كانت الرسامة إيمان عبد الله محمود (تخرجت في معهد الفنون الجميلة في بغداد سنة  1980 وفي أكاديمية الفنون الجميلة سنة 1984 وتقيم حاليا في ألمانيا) مهووسة بنصوص المخطوطات: مخطوطات المعارف التي لا علاقة لها بالخط العربي كفنّ، ومخطوطات الرقى والأوفاق والجداول والكتابات السحرية، والسطوح المدينية: كأرضيات المدن، وآثار التعرية التي تحدث بفعل أقدام العابرين، أو بفعل الزمن، وأيضا الحروف المجتزأة من (خرابيش) تبدو الأيدي التي كتبتها أما أنها لا تجيد الكتابة أو لا تعرفها، فبدت تلك الكتابات تشابكا غير مقروء يعلو بعضه بعضا، فكانت إيمان عبد الله تستل من تلك المخطوطات شرائحها باعتبارها حوارا رفيعا بين المرسل والمتلقي دونما حاجة لرسالة لغوية مواصلاتية هذه المرة، والرسامة في كل توجهاتها السابقة، إنما تحيل كل الإشارات المحيطية، والأشكال، وربما المشخصات إلى ملمسية أو (تجريدية تقنية) فلم ترسم لوحاتها إلا بهدف أن تكون شرائح ينوب فيها الجزء عن الكل؛ ما يمنحها رضا بأنها لم تزل ترسم في منطقة داخل الواقع (المحيط) مهما بدت لبعض المتلقين وكأنها تعمل ضمن منطقة شديدة البعد عنه..

3- يحاول حسن المسعود (ولد في عام ١٩٤٤) وعلى خلاف كتّاب (الكاليغرام) والشعر الكونكريتي، وخطاطي الطغراء العرب أن ينتج إيحاءً بشكل ما ليس من خلال نص مقروء ومحوّر يتخذ شكل أحد المشخصات وإنما من خلال طيف حرف أو مجزوء من مجزوءاته للإيحاء بطيف شكل ما، أي أن هذا (الرسامخطاطـ) ليس إلا منتج أشباح من خلال مادة أولية شبحية هي الأخرى.. انها أشباح حروف وأشكال تستخدم أحبارا قد تبدو غريبة على الخطاطين التقليدين بانتمائها إلى تكنولوجيا التصنيع الحديثة إلا أن وسائله في تصنيعها من المساحيق والصمغ العربي، وكتابة الحرف حافظت على تقليديتها من خلال قصبة الخطّ كذلك.
ينتج تشكيلاته الخطية التي تبدو كمصغرات تماثيل (ماكيتات) يمكن أن تشمخ عاليا بعد تنفيذها بالحجم (المطلوب) في الهواء الطلق، حيث ترتفع الحروف من خط الأفق نحو الفضاء.
يبدو حسن المسعود مغرما بالأساليب التقـلـيدية للخط العـربي، ولكنه في الوقت نفسه يحاول أن يشتغل على المـظهر التجريدي في الخط العربي باعتباره الوسـيلة التعـبـيرية القادرة على استيعاب القدرة التقنية الكاليغرافية التي يعتقد أنها قد ازدادت ثـراء بتنوع الأزمنة والأمكنة وعبر الإضافات الـعـديدة لأجيال الخـطاطـين من الأساليب المتعـددة للشــعـوب المـســلمة التي استخدمت الحرف العربي على مدى التاريخ.
لقد قوبلت أعمال حسن المسعود باحتفاء الأوروبيين الذي هو جزء من احتفائهم بإبداعات الشرق، فقد قوبلت كتبه التي أصدرها وضمت مجموعات منتخبة بكتابات منها: "كم هو مؤثر رؤية خطوط حسن بكمالها، خطوط توحي بغموض سحري غريب.... خطوط سوداء.... ربما لان الحبر الأسود يحوي كل الألوان، وهو جوهر الخط ولون الكتابة الاعتيادية. الحبر الأسود يعطي الإمكانية لنقاء رائع، ويسمح بعفوية مسيطر" (الناشرة سوزان بكيه)، وكان"جسد الحرف مخملي وسميك، المادة اللونية حية ... وندرك جيدا أن هذه الطاقة في الخط إنما هي آتية من روح الخطاط ... طاقة تخترق الحروف لكي تخصبها ... عبر حركة صغيرة أو تحدب خط مستدير ... انه يبحث عن الفعالية عبر البساطة، وهذه البساطة ليست فراغا ولا غيابا، إنما هي الرغبة بالتكثيف للوصول إلى الجوهر، في تعبير داخلي فريد لا يمكن مبادلته بشيء آخر. فانه يبحث عن الارتقاء والرفعة عبر التصفية والتهذيب لشكل الحروف" (ليلا فيكر)، وان " هذه الخطوط تكتشف أصل الكتابة، عندما كانت الكلمات فيما مضى أخت الصورة ..." (جاك لاكاريير).

4- بين معنى الجملة كنص لغوي مواصلاتي مقروء وبين شيئية العمل الخطي تقف أعمال الخطاط الإيراني: كوروش غازي مراد الخطوطية، وهي وان تضمنت عبارات مقروءة، ولكن الأمر المقصود فيها أسلوب انجازها الذي يشتقه الخطاط وفق مقترحات حديثة من خط (الشكسته الفارسي) وخط النستعليق وتبدو نصوصه المشتقة من اللغة الفارسية وكأنها تقف عنا نحن قراء العربية مسافة غربتين: الغربة الأولى غربة اللغة، بينما تتمثل الغربة الثانية أن خط (الشكسته) صعب القراءة بشكل عسير على من لم يعتد أشكاله..
 خالد خضير الصالحي

 http://www.alsabaah.com/ArticleShow.aspx?ID=15965